الـسعــــــــادة
وحدهم الفلاسفة سعداء الفارابي
ما السعادة سؤال ونداء يفرض الاستجابة له من خلال ممارسة التفكير في هذا المفهوم، والانفتاح على كل التصورات الفلسفية المؤطرة له داخل بنية الفكر الإسلامي ، من داخل هذه الرغبة رغبة الاستجابة للنداء نخوض هذه التجربة التأملية والفكرية. ...
الإنسان ولد ليكون سعيدا، هكذا تصبح السعادة غاية وحلما إنسانيا، أنها تلك الحالة العقلية التي يولدها الشعور بالتعود على فعل الخير، كما أكد ذلك أرسطو وهو ما يعني ارتباط السعادة بفعل المعرفة مادامت هي فعل عقلي يرتبط بالتحصيل والتعود هي ليست أمرا تصنعه الطبيعة لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك .
إذن كيف تمثل مفكرو الإسلام مفهوم السعادة، نورد هذا السؤال على سبيل بناء المفهوم ومساءلته.
1.1- الدلالة الاجتماعية
على مستوى التمثل الاجتماعي يختلف الناس في تصورهم للسعادة وفق الدلالات الآتية :
- السعادة هي حسن العيش والحياة الكريمة بامتلاك المال والثروات وتلبية الرغبات .
- السيرة العطرة والحياة الكريمة والمتوازنة، السلوك الفاضل.
تتعدد دلالات السعادة ومدلولاتها بحسب حاجيات الناس ، المريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب الحال، والغريب في العودة لوطنه، والوحيد في الصداقة ، مما يظفي على السعادة بعدا ذاتيا .
فالتمثل الاجتماعي للسعادة يهيمن عليه الطابع المادي وهو ما يفرض السؤال أليس الجانب الروحي ضروريا لاكتساب السعادة وتحصيلها، هذه النظرية الاختزالية لموضوعه السعادة في الفهم الاجتماعي من خلال التركيز على البعد المادي يفرض استحضار الدلالة اللغوية لإضاءة أكثر لهذا المفهوم.
2.1-الدلالة اللغوية
في لسان العرب لابن منظور السعادة مشتقة من فعل "سعد " أي فرح واستبشر، والسعادة هي اليمن وهي نقيض النحس والشقاوة، ويشتق من الجذر اللغوي"سعد " ثلاثة مفاهيم :
• الساعد هو الذراع/ ساعد الإنسان ذراعاه وساعد الطير جناحاه وساعد القبيلة رئيسها.
• السعدات يدل على نبات ذو شوك رطب.
• السعد هو الرائحة الطيبة .
تمعنا في الدلالات المحمولة لغويا يستشف اقتران السعادة بالا رضاء والارتواء والإشباع فالذراع يشبع صاحبه والنهر يروي الحقول / السعيد يروى الحقول والسعد يشبع النفس برائحة عطرة .
كما تقترن الدلالة بضرورة توفر العنصر المادي المحقق للسعادة : الذراع للإنسان والجناح للطائر ورئيس القبيلة لتماسكها.
و السعادة وفق الدلالة اللغوية تبقى مرتبطة كإحساس بالرضى التام يتحقق عبر أو بواسطة الإشباع والتدبير، الإشباع للفرد والتدبير داخل الجماعة .
وهو ما يطرح السؤال والتساؤل حول طبيعة السعادة هل هي فردية أم جماعية ومدنية ؟
3.1 الدلالة الفلسفية
إذا كانت السعادة في الدلالة اللغوية تتحدد كمقابل للنحس والشقاوة فإنها كمفهوم فلسفي تتأس على جملة من التقابلات : سعادة/ شقاء ، فضيلة /رذيلة، خير /شر، وينظر فلسفيا إلى السعادة كحالة إرضاء تام للذات يتسم بالديمومة. ويعرفها أرسطو باعتبارها الحالة العقلية التي يولدها الشعور بالتولد على فعل الخير
غير أن مفهوم السعادة متعدد الدلالات وتتداخل فيه عوامل مختلفة ، بيولوجية نفسية دينية ، اجتماعية ، سياسية : وهو من المفروض إخضاع هذا المفهوم للمساءلة الدقيقة عبر مستويين .
أ- الطبيعة النظرية للمفهوم : هل السعادة مادية أم روحية حسية أم عقلية ؟
ب- الطبيعة العلمية والعلائقية : هل السعادة حالة فردية أم حالة جماعية هل هي دنيوية أم أخروية هل تتحدث عن إنسان سعيد في المجتمع شقي .
تأطيرا لهذه التساؤلات داخل الفكر الإسلامي نستحضر الأطروحات الآتية:
المحور الأول : طبيعة وماهية السعادة :
الإنسان ولد ليكون سعيدا ، إنها مطلب إنساني وقيمة في ذاتها مادام تطلب لذاتها غير أنها ليست معطى فطري إنما هي فعل مكتسب، لا يولد الإنسان سعيدا وإنما يصبح كذلك وهو ما يحيلنا إلى طرح السؤال حول ماهية السعادة وشرط تحققها عند مفكري الإسلام .
إذا كانت البنية الثقافية الإسلامية بنية واحدة ، تحمل وحدة متعددة بحسب الجابري حيث تشمل مجموع ثقافات وعقليات مختلفة : عربية ، إسلامية ، فارسية ، يونانية فكيف سيؤثر هذا المركب الثقافي على تصور مفهوم السعادة
1.1- السعادة متعــة عقلية : الرازي ، الفارابي.
تتحدد رؤية فلاسفة الإسلام إلى موضوعة السعادة وفق المعالم الآتية:
النظر إلى الإنسان من خلال ثنائية (نفس/ جسد) مع تمجيد النفس العاقلة واحتقار الجسد باعتباره عائقا أمام تحصيل السعادة فالنفس جوهر /والجسد مادة.ومتطلبات الجوهر ليست هي متطلبات المادة، هذا التصور يستمد أصوله من الفلسفة اليونانية خاصة محاور فيدون خلود الروح.
الرازي اعتبر اللذة الجسدية هي لذة بهيمية، في مقابل اللذة الحقيقية/كلذة العقلية كلذة تامة وشريفة لا تمل وهو ما يجعلها تطلب لذاتها، وقد هاجم فخر الدين الرازي أولئك الذين يحصرون السعادة في اللذة الحسية يقول :" الاشتغال بقضاء الشهوات ليس من السعادات والكمالات بل هو من دفع الحاجات " فالسعادة لا تتحقق بقضاء الشهوات والانغماس فيها، ولوكان كذلك لكان الحيوان اكثر سعادة من الإنسان، وقد أبرز الرازي حججه العشر الداعمة لفكرته حول أن السعادة لذة عقلية (الحجج العشر، الرجوع إلى التحليل) ثم النظر إلى السعادة الحقيقية من منظور عقلاني حيت الحكمة العقلية هي الطريق الأمثل لتحقيق كمال النفس ، وهو ما أكده أن فضيلة النفس تكمن في التشوق إلى العلوم والمعارف ، وبذلك تصبح الفلسفة الطريق السالك إلى السعادة على حد تعبير الفارابي يقول:"
تصور الفارابي ( 874 – 950 )
يعتبر الفارابي السعادة غاية في ذاتها، ما دامت تطلب لذاتها بعيدا عن أية مصلحة حيث السعادة في نظره لا ترتبط بالبدن وليست إشباعا للذة بدنية، لأن هذا الإشباع هو فعل مشترك مع الحيوان لذا يصبح الفعل العقلي التأملي هو ما يميز الإنسان ، فالسعادة لا ترتبط بعالم الحس والجسد إنها لذة عقلية، لكن السؤال الأساس عند الفارابي هو كيف تحصل هذه السعادة، ما دامت غير متوفرة في عالم الحس والإحساس، لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك هو ما يعني أن تحصيل السعادة فعل مشروط بعملية عقلية تاملية تحترس من الجسد وتتجاوز رغباته ( حضور الأثر الأفلاطوني في رؤية الفارابي ) وهو ما يعني ممارسة فعل التفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق لأن السعادة، لا تحصل إلا بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ ، لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة ، وهذه هي التي تحصل لنا بجودة التميز وكانت جودة التميز إنما تحصل بقوة الذهن على تحصيل الصواب وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق فنعتقد ه ونقف بها على الباطل فنتجنبه "
بهذا تصبح السعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمل به بواسطته يستطيع الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة ، فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأن ممارسة فعل التأمل والتفكير يعني لحظة خاصة في حياة الفيلسوف ، لحظة الخروج من عالم الحس ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتصل بالعقل الفعال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي، وهو ما يعني مكانة الفيلسوف الوسائطية بين عالم السماء وعالم الأرض، بذلك تصبح مهمته تنويرية وانقادية في الوقت ذاته وهو ما يذكرنا بوظيفة الجدل النازل عند أفلاطون .
إذن السعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكل ما يعوق الوصول إليها هو شر مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوة الناطقة العملية أو القوة النزوعية أو القوة المتخيلة أو القوة الحساسة . إن نفي الجسد وعدم أهليته لحمل الحقيقة واستكشاف السعادة ما دام جسدا فانيا أثار ردود فعل عنيفة داخل الفكر الإسلامي خاصة مع الغزالي الذي كفر الفارابي .
2.1 – السعادة متعة جسدية وعقليه ابن مسكويـه :
يؤكد ابن مسكويه أن السعادة الحقيقية لا تكون إشباعا لحاجات البدن، مؤكدا أن الداعين إلى السعادة استنادا إلى الجسد ظلوا عند مستوى البهيمة، فالسعادة تتحقق في إشباع البدن والنفس معا لأن الإنسان في حقيقته وحدة واحدة ، والإنسان يملك كمالان كمال ككائن عامل وعالم في الوقت ذاته وحدة العلم والعمل ، فبقوة العلم والنظر يصل إلى الحقيقة وبقوة العمل يرتب الأمور وينظمها، والجمع بين هذين الكمالين هو السعادة المطلقة، فالسعيد في نظر ابن مسكويه هو الإنسان العالم والعامل وهي في نظره تحقيق للقوتين معا (العلم والعمل: العلم مبدأ والعمل تمام ) ففي نظره السعادة بلوغ للكمال النظري والكمال الأخلاقي العملي، فهي إشباع لمطالب البدن وكذلك إشباع لمطالب الروح، فالذين يحصرون السعادة في اللذة البدنية هم جهال في نظر ابن مسكويه لأنهم جعلوا النفس خادمة وتابعة للجسد، بهذا فالسعادة اجتماع القوتين العاقلة باعتبارها التشوق إلى المعرفة وعاملة باعتبارها تدبير الأمور الحياتية ، فالإنسان في نظره ذو طبيعة مزدوجة نفس وجسد لذا لا بد من تحقيق انسجام وتوازن بين هاتين القوتين ، يؤكد أن مسكويه أن السعيد هو كل من توفر له الحظ من الحكمة لأنه مقيم بروحانيته في الملء الأعلى ، ويستنير بالنور الإلهي ، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع التخلص من جسده .
تصور ابن مسكويه مستمد من فلسفة ارسطو الذي ينظر الي الإنسان ككائن مركب من نفس وجسد، والسعادة في نظر أرسطو هي الانسجام التام بين مطالب الجسد ومطالب النفس والعمل بمقتضى الوسط الذهني كمبدأ أو الوسط العادل : لا إفراط ولا تفريط.
3.1 : السعادة متعة قلبية.
داخل الفلسفة الإسلامية ثمة اتجاه صوفي عرفاني يقر أن : طريق السعادة ليس العقل و لا الجسد وإنما تتأتى عن طريق المجاهدة من أجل تحرير النفس من رغباتها وشهواتها عن طريق عمليتي التخيليـة و التحلية ( التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل) من أجل الوصول في النهاية الي السعادة الحقيقية سعادة المشاهدة القلبية لأنوار الحقيقية الإلهية، حيث ترفع الستائر عن العابد أمام الحقائق الإلهية وهو ما يسميه أهل التصوف بالإشراق.
يؤمن أصحاب التصوف بوجود سعادة باطنية لا يدركها أصحاب النظر لأن السعادة هي فيض الهي يملأ القلب ، فالصوفي يروم إلى تأسيس تقليد مغاير للحظة إبراهيم ، حيث يصر على أن يفدي ذاته وتقديم جسده رغبة في الخلود، مما يعني الابتعاد عن الملذات وطلب الخلوة والانقطاع عن الحياة والمتعة رغبة في الوصول إلى لحظة المشاهدة والكشف، حيث احتقار الجسد ، الذكر ، السماع ، العبادة ، التأمل ، الحدس ، الخلوة كلها مدارج للوصول إلى الفناء الموعود والحلول المنشود بالخالق ( لحظة اتحاد العابد المتصوف بالذات الإلهية ، وحدة الوجود) .
وقد لخص الغزالي هذه التجربة في قوله " الخلو بالنفس في زاوية واقتصار العبادة على الفرائض والرواتب والجلوس بقلب فارغ مجموع الهمة مقبلا على ذكر الله من أجل الاطلاع على عالم الملكوت والاطلاع على اللوح المحفوظ ، لكن يجب التمييز بين التصوف السني والتصوف الفلسفي .
إذا كان التصوف السني كطريق وأسلوب في العبادة لم يتصادم مع الشريعة الإسلامية ، فإن التصوف الفلسفي الذي يحمل رؤية فلسفية متأثرة بالمذاهب والتصورات الثقافية المغايرة خصوصا الاتجاهات الباطنية قد خلق عدة اشكالات داخل البنية الإسلامية ، مع ابن عربي ، الحلاج ، البسطامي ، ذو النون المصري ، السهروردي . ورغم اشتراكهم في أن الوصول إلى الحقيقة يكون عبرة ممارسة وجدانية بعيدا عن العقل والنقل، أو الحكمة والشريعة وإنما الوصول إلى الحقيقة يكون نتيجة عملية وجدانية شاقة لا علاقة لها بالتأمل ولا توجد في نصوص الشرع والقرآن ،وهي تجربة فردية خاصة وسرية حين تتأسس وفق لحظات ثلاث : تخلية ، تحلية ، وتجلية أي حينما تجلى الذات الإلهية أمام المتصوف. نتوقف عند لحظة ابن عربي كممثل لهذا التصور ونورد هذه الواقعة على سبيل الاستئناف لفهم خصوصية التصوف الفلسفي : سأل ابن رشد ابن عربي قائل : كيف وجدتهم الأمر بين الكشف والفيض الإلهي ، هل هذا ما أعطاه لنا النظر ؟ أجاب ابن عربي نعم ، ولا وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها .
هكذا تتحدد رؤية ابن عربي لإدراك الحقيقة والمنهج الموصل إليها ، فهو ليس تأملا وليس وحيا وتقوم نظريته من فكرة وحدة الوجود : سبحان من اظهر الأشياء وهو عينها، فالموجودات هي تجليات للذات الإلهية والمتصوف يقوم برحلة معاكسة حيث الحنين إلى والعودة إلى الأصل والحلول في الذات الإلهية عن طريق تجربة باطنية صوفية تلغي الجسد وتلغي العقل والحواس بحيث تصبح المعرفة نورا يقذف في القلب هذا التصور الاشراقي يذكرنا ما قاله الراهب بولص: صلبت مع المسيح ، فأنا لا أحيى إنما المسيح يحيى فيي " هذه النظرة الحلولية عبر عنها كذلك الحلاج وهو يستبطن قدسية هذه اللحظة قائـلا :
" أنا من أهوى ومن أهوى أنا • نحن روحاني قد حللنا بدنا
فإذا أبصــرته أبصرتـني • وإذا أبصرتـه أبصرتـنا
قد يكون اعتبار ان التجربة الصوفية كتجربة خاصة وسرية تعكس رغبة المتصوفة في تفادي الصراع مع الفقهاء خاصة بعد ردود الفعل العنيفة اتجاه فلسفة الفارابي .
وللتدقيق في مفهوم السعادة نتساءل هل السعادة تتحدد في الانعزال أم في الاجتماع والتعاون، هل السعادة ذات طبيعة فردية أم حالة جماعية تعاش داخل الجماعة، الإجابة على التساؤل ثمة تصوران فلسفيان يؤطران هذا الإشكال داخل الفكر الإسلامي
تابع
وحدهم الفلاسفة سعداء الفارابي
ما السعادة سؤال ونداء يفرض الاستجابة له من خلال ممارسة التفكير في هذا المفهوم، والانفتاح على كل التصورات الفلسفية المؤطرة له داخل بنية الفكر الإسلامي ، من داخل هذه الرغبة رغبة الاستجابة للنداء نخوض هذه التجربة التأملية والفكرية. ...
الإنسان ولد ليكون سعيدا، هكذا تصبح السعادة غاية وحلما إنسانيا، أنها تلك الحالة العقلية التي يولدها الشعور بالتعود على فعل الخير، كما أكد ذلك أرسطو وهو ما يعني ارتباط السعادة بفعل المعرفة مادامت هي فعل عقلي يرتبط بالتحصيل والتعود هي ليست أمرا تصنعه الطبيعة لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك .
إذن كيف تمثل مفكرو الإسلام مفهوم السعادة، نورد هذا السؤال على سبيل بناء المفهوم ومساءلته.
1.1- الدلالة الاجتماعية
على مستوى التمثل الاجتماعي يختلف الناس في تصورهم للسعادة وفق الدلالات الآتية :
- السعادة هي حسن العيش والحياة الكريمة بامتلاك المال والثروات وتلبية الرغبات .
- السيرة العطرة والحياة الكريمة والمتوازنة، السلوك الفاضل.
تتعدد دلالات السعادة ومدلولاتها بحسب حاجيات الناس ، المريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب الحال، والغريب في العودة لوطنه، والوحيد في الصداقة ، مما يظفي على السعادة بعدا ذاتيا .
فالتمثل الاجتماعي للسعادة يهيمن عليه الطابع المادي وهو ما يفرض السؤال أليس الجانب الروحي ضروريا لاكتساب السعادة وتحصيلها، هذه النظرية الاختزالية لموضوعه السعادة في الفهم الاجتماعي من خلال التركيز على البعد المادي يفرض استحضار الدلالة اللغوية لإضاءة أكثر لهذا المفهوم.
2.1-الدلالة اللغوية
في لسان العرب لابن منظور السعادة مشتقة من فعل "سعد " أي فرح واستبشر، والسعادة هي اليمن وهي نقيض النحس والشقاوة، ويشتق من الجذر اللغوي"سعد " ثلاثة مفاهيم :
• الساعد هو الذراع/ ساعد الإنسان ذراعاه وساعد الطير جناحاه وساعد القبيلة رئيسها.
• السعدات يدل على نبات ذو شوك رطب.
• السعد هو الرائحة الطيبة .
تمعنا في الدلالات المحمولة لغويا يستشف اقتران السعادة بالا رضاء والارتواء والإشباع فالذراع يشبع صاحبه والنهر يروي الحقول / السعيد يروى الحقول والسعد يشبع النفس برائحة عطرة .
كما تقترن الدلالة بضرورة توفر العنصر المادي المحقق للسعادة : الذراع للإنسان والجناح للطائر ورئيس القبيلة لتماسكها.
و السعادة وفق الدلالة اللغوية تبقى مرتبطة كإحساس بالرضى التام يتحقق عبر أو بواسطة الإشباع والتدبير، الإشباع للفرد والتدبير داخل الجماعة .
وهو ما يطرح السؤال والتساؤل حول طبيعة السعادة هل هي فردية أم جماعية ومدنية ؟
3.1 الدلالة الفلسفية
إذا كانت السعادة في الدلالة اللغوية تتحدد كمقابل للنحس والشقاوة فإنها كمفهوم فلسفي تتأس على جملة من التقابلات : سعادة/ شقاء ، فضيلة /رذيلة، خير /شر، وينظر فلسفيا إلى السعادة كحالة إرضاء تام للذات يتسم بالديمومة. ويعرفها أرسطو باعتبارها الحالة العقلية التي يولدها الشعور بالتولد على فعل الخير
غير أن مفهوم السعادة متعدد الدلالات وتتداخل فيه عوامل مختلفة ، بيولوجية نفسية دينية ، اجتماعية ، سياسية : وهو من المفروض إخضاع هذا المفهوم للمساءلة الدقيقة عبر مستويين .
أ- الطبيعة النظرية للمفهوم : هل السعادة مادية أم روحية حسية أم عقلية ؟
ب- الطبيعة العلمية والعلائقية : هل السعادة حالة فردية أم حالة جماعية هل هي دنيوية أم أخروية هل تتحدث عن إنسان سعيد في المجتمع شقي .
تأطيرا لهذه التساؤلات داخل الفكر الإسلامي نستحضر الأطروحات الآتية:
المحور الأول : طبيعة وماهية السعادة :
الإنسان ولد ليكون سعيدا ، إنها مطلب إنساني وقيمة في ذاتها مادام تطلب لذاتها غير أنها ليست معطى فطري إنما هي فعل مكتسب، لا يولد الإنسان سعيدا وإنما يصبح كذلك وهو ما يحيلنا إلى طرح السؤال حول ماهية السعادة وشرط تحققها عند مفكري الإسلام .
إذا كانت البنية الثقافية الإسلامية بنية واحدة ، تحمل وحدة متعددة بحسب الجابري حيث تشمل مجموع ثقافات وعقليات مختلفة : عربية ، إسلامية ، فارسية ، يونانية فكيف سيؤثر هذا المركب الثقافي على تصور مفهوم السعادة
1.1- السعادة متعــة عقلية : الرازي ، الفارابي.
تتحدد رؤية فلاسفة الإسلام إلى موضوعة السعادة وفق المعالم الآتية:
النظر إلى الإنسان من خلال ثنائية (نفس/ جسد) مع تمجيد النفس العاقلة واحتقار الجسد باعتباره عائقا أمام تحصيل السعادة فالنفس جوهر /والجسد مادة.ومتطلبات الجوهر ليست هي متطلبات المادة، هذا التصور يستمد أصوله من الفلسفة اليونانية خاصة محاور فيدون خلود الروح.
الرازي اعتبر اللذة الجسدية هي لذة بهيمية، في مقابل اللذة الحقيقية/كلذة العقلية كلذة تامة وشريفة لا تمل وهو ما يجعلها تطلب لذاتها، وقد هاجم فخر الدين الرازي أولئك الذين يحصرون السعادة في اللذة الحسية يقول :" الاشتغال بقضاء الشهوات ليس من السعادات والكمالات بل هو من دفع الحاجات " فالسعادة لا تتحقق بقضاء الشهوات والانغماس فيها، ولوكان كذلك لكان الحيوان اكثر سعادة من الإنسان، وقد أبرز الرازي حججه العشر الداعمة لفكرته حول أن السعادة لذة عقلية (الحجج العشر، الرجوع إلى التحليل) ثم النظر إلى السعادة الحقيقية من منظور عقلاني حيت الحكمة العقلية هي الطريق الأمثل لتحقيق كمال النفس ، وهو ما أكده أن فضيلة النفس تكمن في التشوق إلى العلوم والمعارف ، وبذلك تصبح الفلسفة الطريق السالك إلى السعادة على حد تعبير الفارابي يقول:"
تصور الفارابي ( 874 – 950 )
يعتبر الفارابي السعادة غاية في ذاتها، ما دامت تطلب لذاتها بعيدا عن أية مصلحة حيث السعادة في نظره لا ترتبط بالبدن وليست إشباعا للذة بدنية، لأن هذا الإشباع هو فعل مشترك مع الحيوان لذا يصبح الفعل العقلي التأملي هو ما يميز الإنسان ، فالسعادة لا ترتبط بعالم الحس والجسد إنها لذة عقلية، لكن السؤال الأساس عند الفارابي هو كيف تحصل هذه السعادة، ما دامت غير متوفرة في عالم الحس والإحساس، لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك هو ما يعني أن تحصيل السعادة فعل مشروط بعملية عقلية تاملية تحترس من الجسد وتتجاوز رغباته ( حضور الأثر الأفلاطوني في رؤية الفارابي ) وهو ما يعني ممارسة فعل التفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق لأن السعادة، لا تحصل إلا بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ ، لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة ، وهذه هي التي تحصل لنا بجودة التميز وكانت جودة التميز إنما تحصل بقوة الذهن على تحصيل الصواب وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق فنعتقد ه ونقف بها على الباطل فنتجنبه "
بهذا تصبح السعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمل به بواسطته يستطيع الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة ، فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأن ممارسة فعل التأمل والتفكير يعني لحظة خاصة في حياة الفيلسوف ، لحظة الخروج من عالم الحس ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتصل بالعقل الفعال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي، وهو ما يعني مكانة الفيلسوف الوسائطية بين عالم السماء وعالم الأرض، بذلك تصبح مهمته تنويرية وانقادية في الوقت ذاته وهو ما يذكرنا بوظيفة الجدل النازل عند أفلاطون .
إذن السعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكل ما يعوق الوصول إليها هو شر مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوة الناطقة العملية أو القوة النزوعية أو القوة المتخيلة أو القوة الحساسة . إن نفي الجسد وعدم أهليته لحمل الحقيقة واستكشاف السعادة ما دام جسدا فانيا أثار ردود فعل عنيفة داخل الفكر الإسلامي خاصة مع الغزالي الذي كفر الفارابي .
2.1 – السعادة متعة جسدية وعقليه ابن مسكويـه :
يؤكد ابن مسكويه أن السعادة الحقيقية لا تكون إشباعا لحاجات البدن، مؤكدا أن الداعين إلى السعادة استنادا إلى الجسد ظلوا عند مستوى البهيمة، فالسعادة تتحقق في إشباع البدن والنفس معا لأن الإنسان في حقيقته وحدة واحدة ، والإنسان يملك كمالان كمال ككائن عامل وعالم في الوقت ذاته وحدة العلم والعمل ، فبقوة العلم والنظر يصل إلى الحقيقة وبقوة العمل يرتب الأمور وينظمها، والجمع بين هذين الكمالين هو السعادة المطلقة، فالسعيد في نظر ابن مسكويه هو الإنسان العالم والعامل وهي في نظره تحقيق للقوتين معا (العلم والعمل: العلم مبدأ والعمل تمام ) ففي نظره السعادة بلوغ للكمال النظري والكمال الأخلاقي العملي، فهي إشباع لمطالب البدن وكذلك إشباع لمطالب الروح، فالذين يحصرون السعادة في اللذة البدنية هم جهال في نظر ابن مسكويه لأنهم جعلوا النفس خادمة وتابعة للجسد، بهذا فالسعادة اجتماع القوتين العاقلة باعتبارها التشوق إلى المعرفة وعاملة باعتبارها تدبير الأمور الحياتية ، فالإنسان في نظره ذو طبيعة مزدوجة نفس وجسد لذا لا بد من تحقيق انسجام وتوازن بين هاتين القوتين ، يؤكد أن مسكويه أن السعيد هو كل من توفر له الحظ من الحكمة لأنه مقيم بروحانيته في الملء الأعلى ، ويستنير بالنور الإلهي ، لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع التخلص من جسده .
تصور ابن مسكويه مستمد من فلسفة ارسطو الذي ينظر الي الإنسان ككائن مركب من نفس وجسد، والسعادة في نظر أرسطو هي الانسجام التام بين مطالب الجسد ومطالب النفس والعمل بمقتضى الوسط الذهني كمبدأ أو الوسط العادل : لا إفراط ولا تفريط.
3.1 : السعادة متعة قلبية.
داخل الفلسفة الإسلامية ثمة اتجاه صوفي عرفاني يقر أن : طريق السعادة ليس العقل و لا الجسد وإنما تتأتى عن طريق المجاهدة من أجل تحرير النفس من رغباتها وشهواتها عن طريق عمليتي التخيليـة و التحلية ( التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل) من أجل الوصول في النهاية الي السعادة الحقيقية سعادة المشاهدة القلبية لأنوار الحقيقية الإلهية، حيث ترفع الستائر عن العابد أمام الحقائق الإلهية وهو ما يسميه أهل التصوف بالإشراق.
يؤمن أصحاب التصوف بوجود سعادة باطنية لا يدركها أصحاب النظر لأن السعادة هي فيض الهي يملأ القلب ، فالصوفي يروم إلى تأسيس تقليد مغاير للحظة إبراهيم ، حيث يصر على أن يفدي ذاته وتقديم جسده رغبة في الخلود، مما يعني الابتعاد عن الملذات وطلب الخلوة والانقطاع عن الحياة والمتعة رغبة في الوصول إلى لحظة المشاهدة والكشف، حيث احتقار الجسد ، الذكر ، السماع ، العبادة ، التأمل ، الحدس ، الخلوة كلها مدارج للوصول إلى الفناء الموعود والحلول المنشود بالخالق ( لحظة اتحاد العابد المتصوف بالذات الإلهية ، وحدة الوجود) .
وقد لخص الغزالي هذه التجربة في قوله " الخلو بالنفس في زاوية واقتصار العبادة على الفرائض والرواتب والجلوس بقلب فارغ مجموع الهمة مقبلا على ذكر الله من أجل الاطلاع على عالم الملكوت والاطلاع على اللوح المحفوظ ، لكن يجب التمييز بين التصوف السني والتصوف الفلسفي .
إذا كان التصوف السني كطريق وأسلوب في العبادة لم يتصادم مع الشريعة الإسلامية ، فإن التصوف الفلسفي الذي يحمل رؤية فلسفية متأثرة بالمذاهب والتصورات الثقافية المغايرة خصوصا الاتجاهات الباطنية قد خلق عدة اشكالات داخل البنية الإسلامية ، مع ابن عربي ، الحلاج ، البسطامي ، ذو النون المصري ، السهروردي . ورغم اشتراكهم في أن الوصول إلى الحقيقة يكون عبرة ممارسة وجدانية بعيدا عن العقل والنقل، أو الحكمة والشريعة وإنما الوصول إلى الحقيقة يكون نتيجة عملية وجدانية شاقة لا علاقة لها بالتأمل ولا توجد في نصوص الشرع والقرآن ،وهي تجربة فردية خاصة وسرية حين تتأسس وفق لحظات ثلاث : تخلية ، تحلية ، وتجلية أي حينما تجلى الذات الإلهية أمام المتصوف. نتوقف عند لحظة ابن عربي كممثل لهذا التصور ونورد هذه الواقعة على سبيل الاستئناف لفهم خصوصية التصوف الفلسفي : سأل ابن رشد ابن عربي قائل : كيف وجدتهم الأمر بين الكشف والفيض الإلهي ، هل هذا ما أعطاه لنا النظر ؟ أجاب ابن عربي نعم ، ولا وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها .
هكذا تتحدد رؤية ابن عربي لإدراك الحقيقة والمنهج الموصل إليها ، فهو ليس تأملا وليس وحيا وتقوم نظريته من فكرة وحدة الوجود : سبحان من اظهر الأشياء وهو عينها، فالموجودات هي تجليات للذات الإلهية والمتصوف يقوم برحلة معاكسة حيث الحنين إلى والعودة إلى الأصل والحلول في الذات الإلهية عن طريق تجربة باطنية صوفية تلغي الجسد وتلغي العقل والحواس بحيث تصبح المعرفة نورا يقذف في القلب هذا التصور الاشراقي يذكرنا ما قاله الراهب بولص: صلبت مع المسيح ، فأنا لا أحيى إنما المسيح يحيى فيي " هذه النظرة الحلولية عبر عنها كذلك الحلاج وهو يستبطن قدسية هذه اللحظة قائـلا :
" أنا من أهوى ومن أهوى أنا • نحن روحاني قد حللنا بدنا
فإذا أبصــرته أبصرتـني • وإذا أبصرتـه أبصرتـنا
قد يكون اعتبار ان التجربة الصوفية كتجربة خاصة وسرية تعكس رغبة المتصوفة في تفادي الصراع مع الفقهاء خاصة بعد ردود الفعل العنيفة اتجاه فلسفة الفارابي .
وللتدقيق في مفهوم السعادة نتساءل هل السعادة تتحدد في الانعزال أم في الاجتماع والتعاون، هل السعادة ذات طبيعة فردية أم حالة جماعية تعاش داخل الجماعة، الإجابة على التساؤل ثمة تصوران فلسفيان يؤطران هذا الإشكال داخل الفكر الإسلامي
تابع
عدل سابقا من قبل loubna في الثلاثاء يوليو 29, 2008 10:03 am عدل 1 مرات