تقديم:
تحيل كلمة رغبة في لسان العرب لابن منظور إلى المعاني التالية:
- الرغبة: الحرص على الشيء والطمع فيه والرغبة (...) السؤال والطمع (...).
- رغب في الشيء رغبا ورغبة ... أراده (...).
- رغب عن الشيء، تركه متعمدا، وزهد فيه، لم يرده (...) يقال رغبت بفلان عن هذا الأمر إذا كرهته له[1] ...
وفي معجم روبير الفرنسي، تشير الرغبة إلى الميل في تحصيل شيء ما بغية تحقيق اللذة (...) [يقال] عبر أو أبدى رغبة أي مرادا، وأمنية (...) [يقال كذلك] الرغبة في النجاح بمعنى الطموح والإرادة، والرغبة في المعرفة بمعنى الفضول.
إن تعدد هذه المفاهيم الدالة على الرغبة يؤكد التباس المفهوم وتشعب معانيه، أما الدلالة الفلسفية عند لالاند في معجمه الفلسفي فمضمونها أن الرغبة ميل عفوي واع نحو غاية معلومة أو متخيلة (..) وضدها النفور aversion.
يبدو من تعريف لالاند أنه قارن الرغبة بالوعي، وبالغاية التي تكون واضحة أو مضمرة، وأورد ضدها وهو النفور فالرغبة في أشياء لا تخلو من النفور من أشياء أخرى.
يلتبس مفهوم الرغبة Désir مع مفاهيم أخرى، مثل مفهوم الحاجة Besoin، ومفهوم الإرادة Volonté، فما الفرق بينهم؟ وهل الرغبة تحقق السعادة؟
الرغبة والحاجة:
تحيل الحاجة على كل ما هو ضروري لبقاء الذات من مأكل وملبس ومسكن وغيره، أما الرغبة فتحيل على نزوع وميل الذات إلى كل ما يجلب لها اللذة والاستمتاع سواء أكانت هذه الذات تحتاجه عمليا وواقعيا أم لا، إذا كانت الحاجة تحيل إلى ما هو ضروري لبقاء الإنسان، فهل يمكن الاكتفاء بها فقط؟
إن البقاء الذي يضمنه تحقيق الحاجات الأساسية ليس إلا الحد الأدنى من الوجود والإنسان في هذا الجانب (البقاء) لا يتميز كثيرا عن باقي الكائنات الحية، بل إن هناك عددا من الكائنات الحية التي طورت استراتيجيات للبقاء تتفوق كثيرا عن تلك التي طورها الإنسان، فالسلاحف مثلا عمرت لملايين السنين ولا يبدو وافي الأفق القريب أنها ستنقرض!
إن الإنسان يشترك مع باقي الحيوانات في الاعتماد على إشباع الحاجات الأساسية (البيولوجية أساسا) لضمان البقاء، وإن كان يمتاز عنها بتعقد وتعدد حاجاته ما بين اجتماعية و"نفسية" وبيولوجية، فإن هذا الامتياز هو امتياز نوع، فكثير من الكائنات تميل إلى التجمع في شكل قطعان، ويحمي بعضها بعضا ويعتمد بعضها على بعض، بل إن منها من تملك تقسيما للعمل ( النحل، النمل) وهي في هذا تشترك مع الإنسان في نوع حاجاته لكن درجة تعقد الحاجات الإنسانية أكبر بكثير.
إذا سلمنا بأن الفروق بين الحاجات الإنسانية والحاجات الحيوانية هي فروق درجة لا فروق نوع، فإنه لا يمكننا التسليم بهذا فيما يخص الرغبات، فالرغبة هي خاصية إنسانية محضة.
الرغبة لا تحمل صفة الضرورة الحيوية، ولا يعتمد بقاء الإنسان على إشباعها بل إن إشباع بعضها قد يهدد هذا البقاء نفسه، لكن الإنسان يسعى جاهدا من أجل إشباعها، وهنا يكمن تميز الرغبة الإنسانية عن الحاجة الحيوانية، فالإنسان يرغب في أكثر مما يحتاج، وحياته هي مغامرة كبرى لتخطي سياج الضروريات فقط (عيش الكفاف) إلى فضاء الرغبات (عيش الكماليات)، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! إن الحاجة هي ضرورة بقاء، أما الرغبة –مهما كان حكمنا عليها- فهي ضرورة تميز، وكلاهما ضروري لبقاء الإنسان المبدع.
اشتراك الحاجة والرغبة في صفة الضرورة لا يعني تطابقهما، فالرغبة تختلف في كثير من الصفات والخصائص عن الحاجة:
· لا توجد دائما علاقة تلازم بين الحاجة والرغبة، فكثير من الحاجات تكون ملحة لكننا لا نرغب في تحقيقها (الحاجة للرياضة تكون ملحة عند البعض لكنه لا يرغب في مزاولتها)، وبالمقابل هناك الكثير من الرغبات التي تلح لإشباعها لكننا لا نحتاجها واقعيا (الرغبة في اقتناء ثياب جديدة رغم امتلاك ما يكفي منها).
· الحاجة لها موضوع واحد شعوري ومحدد (الحاجة للأكل، الحاجة للأمن)، أما الرغبة فمواضيعها غير محددة بدقة، وغالبا ما تكون لا شعورية، وذلك لأن الموضوع المعلن للرغبة لا يمثل دائما الموضوع الحقيقي بل مجرد تعويض عنه (رغبة المراهق في دراجة فخمة قد لا تكون إلا تعويضا لرغبته بالظهور بمظهر الرجولة).
· حاجات الإنسان محدودة وثابتة أما رغباته فغير محدودة وغير ثابتة، فالحاجات التي تضمن وضمنت بقاء الإنسان ظلت هي هي، أما رغبات الإنسان فغير محدودة وذلك أنه كلما تحققت رغبة إلا وتم السعي وراء رغبة أخرى مما يجعلها غير قابلة للإشباع المطلق (= الموت!).
· يمكن إلغاء بعض الرغبات وتغيرها مع التقدم في السن وتغير المواقف واغتناء التجارب...، لكن لا يمكن إلغاء الحاجات الأساسية دون تعريض الوجود المادي للفرد للخطر.
· إشباع بعض الرغبات قد يكون على حساب حاجات أخرى، وتحقيق حاجات معينة قد يخدم الإنسان من إشباع بعض رغباته (الرغبة في صوم التطوع يلغي (أو يؤجل) الحاجة للأكل، الحاجة للأمن وحفظ الذات .... الإنسان من المغامرة).
· تحقيق الحاجات يضمن الحياة والبقاء، لكن تحقيق بعض الرغبات قد يهدد هذه الحياة نفسها (الرغبة في تسلق الجبال الوعرة).
· الحاجات تكون في أغلبها مشتركة بين أفراد النوع الواحد (أو المجتمع الواحد)، أما الرغبات فتكون فردية أو مشتركة بين جماعات محدودة، فجميع أفراد النوع البشري يشتركون في الحاجة للأكل والأمن ... لكنهم يتمايزون في رغباتهم فالبعض قد يرغب في اقتناء سيارة في حين يرغب آخر في السفر، وحتى إن اشتركت جماعة معينة في نفس الرغبة، اقتناء سيارة مثلا، فإنهم يختلفون في تفصيل نوع عن آخر، فالرغبة هي مسألة فردية ولا يمكن لأحد أن يرغب بالنيابة عن الآخر، ولا أن يجعل الآخرين يشاركونه رغباته.
· الحاجات تتسم بالانسجام والمعقولية، أما الرغبات فتتسم بالتغير السريع والتناقض أحيانا واللامعقولية أحيانا كثيرة، فنجد أن الفرد يغير رغباته بين لحظة وأخرى، ويرغب في الشيء ونقيضه (الرغبة بالبقاء مع الأهل) ونجد عند البعض كثيرا من الرغبات غير المعقولة، فمن الناس من يرغب في أن يكون له أجنحة، أو أن يرجع القهقرة في السن، أو يكون سوبرمان! ويمكننا الاستطراد أكثر في تعداد هي التمايزات والتدقيق في تفاصيلها، لكن فيما ذكرناه الكفاية، ولا بد من الإشارة إلى أن ما عددناه من صفات الرغبة لا ينطبق بالضرورة على جميع الرغبات، وإن كان يلزم ويشمل أغلبها.